منذ أسبوع أتممتُ عامِيَ الواحِدَ والأربعين. عامٌ كاملٌ من العقد الخامس قد تمّ.
تُراوِدُني منذ بَدَأَ الشّهر فكرةٌ واحدة: أن أعالج ما ترسّب في نفسي من عُقَد وأنْفض عن عقلي ذكرياتي البائسة بالكتابة. لماذا لا أذهبُ إلى طبيب، فأحكي له نفسي مُنذُ البداية، فتصفو أخيرًا وتستوي؟ تسيطر عليّ فكرة أخرى: ما أهمّية ما حدث لكِ وما قوّته وقد امتلأ العالم بالمآسي؟ أكُنتِ تعيسة؟ تقول أمّي دومًا أنّ كلّ الناس تُعساء بِدَرجات، وأَختلِفُ معها وأُجادِل؛ أرى بعضَ الناس سعداء تماما، ولا تعدو "مآسيهم" أن تكون نواتج روتين الحياة التي يمرّ بها كلّ من يعيش نفس الروتين.
أَبحثُ في نفسي أكثر؛ ربّما أعتقد في قرارة نفسي أن مآسيّ من العَظَمة بحيث لا بدّ أن أُخَلِّدها بالكتابة. نعم، لطالما ظننت أن حياتي إغريقيّة، فأنا منذ البداية، منذ كان عمري 6 سنوات، أَسرُدُها في عقلي كما لو كُنتُ بطلةً على المسرح. أليْسَ يقولُ يوسف وهبي: "ما الدنيا إلا مسرحٌ كبير"؟ هو ذاك؛ الدنيا مسرحي الكبير، وأنا دومًا أمثّل. لا أظنّ أنّي أخبرتُ أحدًا مِن قَبْلُ أنّني قد مثّلت فعلا في المسرح المدرسي. لم يكُن والداي يعلمان بما أفعلُ في المدرسة، وفي سنة من السنين لم يكونا يذكران في أيّ سنةٍ دراسيّةٍ كُنْت. كان التمثيل المسرحي نشاطًا اكتشفتُه بالصُّدفة، كما اكتشفت كلَّ الأنشطة الأخرى. لم يكن لديّ شغفٌ يَدفعُني لاكتشاف الأشياء، وهذا الشغف المفقود سيلازمني لباقي العمر، فلا أسعى لشيء، ولا أثابرُ على شيء، وأُدفع للأمور دفعًا، فأؤدي جيّدًا، وربّما أتميّز، ولكن لا يعدو الأمر فَوَراتِ استكشافٍ لا تدوم.
أًدّيْتُ دوري في مسرحيّة المدرسة مرّتيْن؛ مرّة في مسابقةٍ على مستوى المنطقة، ومرّة في التصفيةِ النهائية على مستوى المُحافَظة. كان عمري وقتها اثني عشر عامًا. أجرؤ أن أقول أنّني في المرة الأولى كنت عظيمة؛ كان دوري أن أمثِّل أُمًّا فلسطينية تتلقّى خبر مقتل ابنها وهو يقطِف بُرتقالًا من مزرعتهم الواقعة تحت الاحتلال. أَلْقَيْتُ المونولج الأعصم، وبكيتُ كثيرًا، ثمّ خرجتُ من المسرح على صوتِ التّصفيقِ الحارّ من الجمهور، وارتميت في الكواليس بين ذراعيْ المُخرِج، وكان أستاذًا كبيرًا للمسرح جاء إلى مدرستنا ليخرج المسرحيّة. بكيتُ كثيرا. صدّقت نفسي. ربّما منذ تلك اللحظة راقت لي لعبة التظاهر؛ أن تعيش في جِلْد غيرِك، وتبكِيَ دموع غيرِك، لأن دموعك أنت لا بدّ أن تظلّ طيّ الكِتْمان. كانت تلك أوّلَ وآخر مرة أبكي فيها في العلن. في الأداء الثاني للمسرحيّة، كنت أؤدي المشهد مُكَرّرًا، ولم يكُن التِكرار كالمرّة الأولى؛ كنتُ أُمثِّل الأمومة وأُمثِّل البكاء. صفّق الجُمهور بنفس الحرارة، لكن دموعي جفّت فَوْرَ أن اختفيت من على خشبة المسرح. أصبحتُ محترفة. عجبا! لم يكُن تمثيلي في العرضِ الأوّل هو أدائي الأوّل، فقد سبقتهُ تدريبات مُكثّفة على مسرح المدرسة قبل أن نذهب للمسابقة. لِمَ تألّقتُ وقد كنتُ أُكرِّر؟ ربّما هو الجُمهور، ربّما هي لحظة الأداء العلني، ربّما إحساسي بالمسئولية تجاه الفريق والمدرسة. لستُ أدري. للمرّة الأولى سِحْر لن يتكرّر وإن تكرّرتِ المرّات. في المرّة الأولى فشلتُ لأنّني كنت صادقة، وفي المرّة الثّانية نجحتُ لأنني أتقنتُ الدَّوْر.
راودني حُلم التّمثيلِ زمنًا، ولكنّه لم يكن شغفًا إلّا بِقَدْرِ ما كنتُ أُمثِّل بيني وبين نفسي عندما أكونُ وحيدةً في المنزل. لم تكُن حاجة للتّمثيل كَفَنٍّ قَدْرَ ما كانت حاجة للتّقمُّصِ والهروب؛ أن أعيشَ حياةً غيْرَ حياتي. أن أعيشَ دراما.
(إنّ محاولة سَبْرِ أغوار النفس للوصول إلى ما يعتمل فيها أَمرٌ مُزْعجٌ حقًّا)
اكتشفتُ الأنشطة الأخرى بالصُّدفة؛ الموسيقى، الخطّ، الرّسم، الكتابة، الإلقاء. كنتُ أرمي نفسي في كلّ ما أكتشِف، ولا أغفل أبدًا أن أستذكِرُ دروسي جيدًا، وأتألّق على جميع الأصعدة. كنتُ أَخلِقُ مِن نَفْسي نَجْمةً في مدرستي، كالعصاميّ الذي يبني مجده من الصّفر، إلّا أنّني كنتُ تحت الصّفر. أنْ تَنشأَ مُغترِبًا في وسطٍ يَحتقِرُ فَقْرك ويُعايِرُك به كلّ لحظة سرًّا وعلنًا كان أمرًا قاسيًا. أنْ يكونَ نَعْتُكَ دومًا هو "المصريّة الفوّالة" في أوّلِ سنين وَعْيِك بالعالم كان أمرًا قاسيًا. أنْ تَشكُوَ للمرّة الأولى فلا تَجِدَ منْ يَسمعُك، فتعتادَ ابتلاع الإهانات دون بُكاء، لأن البُكاء يجلب المزيد منها. أنْ تُجْبَرَ على أن يكون ثَمَنُ اعتدادِك بِنَفْسكَ هوَ أن لا تبكي أبدًا مهما كان الأمرُ قاسيًا.
ولكنّي بكيت مرّة واحدة. كانت مرّة خارج المسرح. كنت أُحاوِل اكتساب أصدقاء يُحبّونَني لنفسي، ولكني كنت أحاول اكتسابهم بأن أَنخرِط في أَنشطِتِهم، وكان النّشاط هذه المرة تقريرًا للإذاعةِ المدرسيّة. كُنّا ثلاثة في مكتبة المدرسة، وكانت "الصّديقتان" تلعبان، وأنا أكتُبُ التّقريرَ وظهري لهما، سعيدة بأن أقوم بكل العمل. كُنتُ مُغْتَبِطَةً بتلك اللحظات التي سُمح لي فيها أن أكون مع اثنتين تمنَّيْتُ صداقتهما. قَرَّرَّتِ الصديقتان أن تلعبا لُعْبةً جديدة، فكانتا تجريان بطول قاعة المكتبة مُتقابِلَتَيْن، حتى إذا ما الْتَقَيَتا ورائي قامتا بضربي على ظهري بالتناوب وأكملتا الجري في الاتّجاه المُقابِل. في كلّ مرّةٍ كانت ضحكاتهما تتعالى، وأنا أكتمُ القهْر وأكتُب. أكتُب، وأكتُب، وأكتُبُ، حتّى بكيْت؛ صامتةً في البداية، ثم ندّت منّي شَهْقةٌ أَبَتْ إلّا أن تهرُب إلى فضاءِ المكتبة. توقَّفَتِ "الصديقتان" قلقتيْن، وسألتاني عمّا بي، فأجبتُ أنّي حزينةٌ لأنّ أُختي مريضة. "لا باس لا باس".
أتخيل نفسي أشاهد ذلك المشهد مُمَثَّلًا في فيلمٍ أو مسرحيّة، مُحرِّكًا مشاعر المشاهدين حتّى يجْشهوا بالبُكاء، ولكن لم تتحرك مشاعرُ أحدٍ عندما كان المشهدُ حقيقة. لقد أخفيتُ الحقيقة جيّدًا. يومها عرفتُ أنني أجيد التمثيل، ولكنّني ظننتُ أنّني أبدًا لن أكونَ مُحترِفة؛ سيظل بداخلي دَوْمًا رُكْنٌ قَصِيٌّ يتأثّر لِما يحدثٌ لي ويهدّدُ بأن يفضحني بالبُكاء. ولكن عندما ضربتني مُدَرِّسة بعدها بعامين، وخرجتُ بِخَدّي الأحمر يَرِنُّ أمام طابور صباح المدرسة كلها، وكان فيه "الصديقتان"، لم أذرف دمعة. رفعت رأسي عاليًا، وكتمتُ الشّهقات التي كانت تُمَزِّقُ داخلي بقبْضةٍ من حديد لا زلتُ أذكرُ طَعْمها جيّدًا. لن يرى هؤلاء ضعفي ثانية أبدًا. لقد أتقنت الدور.
أتخيل نفسي أشاهد ذلك المشهد مُمَثَّلًا في فيلمٍ أو مسرحيّة، مُحرِّكًا مشاعر المشاهدين حتّى يجْشهوا بالبُكاء، ولكن لم تتحرك مشاعرُ أحدٍ عندما كان المشهدُ حقيقة. لقد أخفيتُ الحقيقة جيّدًا. يومها عرفتُ أنني أجيد التمثيل، ولكنّني ظننتُ أنّني أبدًا لن أكونَ مُحترِفة؛ سيظل بداخلي دَوْمًا رُكْنٌ قَصِيٌّ يتأثّر لِما يحدثٌ لي ويهدّدُ بأن يفضحني بالبُكاء. ولكن عندما ضربتني مُدَرِّسة بعدها بعامين، وخرجتُ بِخَدّي الأحمر يَرِنُّ أمام طابور صباح المدرسة كلها، وكان فيه "الصديقتان"، لم أذرف دمعة. رفعت رأسي عاليًا، وكتمتُ الشّهقات التي كانت تُمَزِّقُ داخلي بقبْضةٍ من حديد لا زلتُ أذكرُ طَعْمها جيّدًا. لن يرى هؤلاء ضعفي ثانية أبدًا. لقد أتقنت الدور.
سأحاول اكتساب الأصدقاء ثانية في بلدي. لن أكون مُغترِبة هذه المرة، وسأبدأُ مِنَ الصّفْرِ ثانيةً؛ سأكونُ صادقةً في الْمَرَّةِ الأولى، وسأتلقّى ضَرَباتٍ قاصمة، وسأتلقّاها وأرفعُ رأسي عاليًا، وسأكتمُ البكاء، وسأندُب غبائي في صمْت. لن يكونَ هُناكَ تمثيلٌ لِلَحَظاتِ الدّراما تلك، لأنّني سأدفِنُ القصّة والسّيناريو والْحوار للمرّةِ الأخيرة؛ لقد أتقنت الدورَ حتّى لم يعد هناك حاجة لهم.
ولكن لِكُلّ ذلك نهايةٌ سعيدة (إلى حدٍّ ما).
عندما توقّفْتُ أخيرًا عن مُحاولةِ اكتسابِ الأصدقاء، وَجَدْتُهُمْ؛ الكثيرَ مِنْهُم، بِدَرَجات كثيرةً وتنويعاتٍ تُرضي شخصيّاتي المُتعدِّدة، فأنا لا زلت مُمَثِّلةً على مسرحِ الحياة. تُطمْئِنُني الصّداقات الجديدة، وأُصَدِّقُ أنّها طيّبةٌ ومُطَبِّبَةٌ للنّفس. أستقِرّ في إيقاعٍ هاديءٍ خالٍ من المفاجآت غير السارّة. لقد انْحَسَرَتْ بُؤرةُ الدّراما الحالكة وبِتُّ أقضي جُلَّ وقتي في الشّمس كباقي خلق الله. لكنّ الدّوْرَ الذّي أَتْقَنْتُه، والدّرْسَ الذّي تَلَقَّيْتُه، يُلقيان بِظِلّالِهِما، فلا أقتربُ كثيرًا مُعظمَ الوقت. وأحيانًا، أحيانًا قليلة، أقتربُ أكثرَ مِنَ اللّازِم، مُتَحَدِّيةً المُخرِج أن يَحْذِفَني بِضرْبة أقسى ممّا اختبرتُ كي يرى كم سأتلقّاها باعتداد. لقد سئمتُ ابتلاعَ نَفْسِ الدّموعِ التّي بَكَيْتُها في لحظاتِ الماضي تلك، وصار اجترارُ تلك اللّحظاتِ مُمِلًّا. لقد ابتعدَ الماضي كثيرًا، ولم يَعُدْ من المُجْدي ولا من المُؤثِّرِ أن أَحْكِيَهُ الآن وقد كبُرْتُ وتعدَّيْتُ العِقْدَ الرّابع، وبَهَتَ بريقُ الدّراما الطّفولية؛ سيقول لي الجميع: "اكبري وانضجي". لقد اكْتَسَحَني المَلَلُ الكامِل. لا بدّ من دراما "طازجة" حتّى أستطيعَ الاستمرارَ في البقاءِ على المسرح. هذه هي العُقْدَة، والحَلّ.