قرأت "زقاق المدق" في عام ١٩٩٨, ولم أكن من هواة نجيب محفوظ، إذ كنت مهووسة بالعقاد والحكيم وكتاباتهم الفلسفية، وكان أدب محفوظ بالنسبة لي ممثلاً لبلد لا أعرفها وأناس لم أرهم إلا في الأفلام؛ أفلام مأخوذة من رواياته على الأغلب. وكانت زقاق المدق أهديت إليّ من أحد الأقارب، فقرأتها في ساعة صفو. وأستطيع القول أني وقعت في غرام مصر بعد تلك الساعة؛ إذ لم يكن لدي أي نية قبل ذلك الوقت لحب بلد لم أعش فيها باكرة أيامي وسنين طفولتي. أحببت مصر "العتيقة" كما يحلو لخالي أن يسميها، وأحببت تاريخ مصر، بفرعونِيِّه وقبطِيِّه وعربِيِّه وفاطمِيِّه ومملوكِيِّه وعثمانِيِّه. وابتدأ هوسٌ أحسبه مستمراً إلى الآن بالتاريخ المصري، وحرصت على جمع و قراءة روايات محفوظ كلما وجدت الفراغ والطاقة، إذ رأيتُ فيها تجسيداً حسَّاساً - على قدر قسوته - روحانياً - على قدر حِسِّيَّتِه - لمصر والمصريين.
قرأت زقاق المدق، وإذ وصلت إلى المقطع الذي سأُدرِجُه تالياً بقليل من الاختصار، دَوَّنْتُه في يومياتي، و قررت اليوم في ذكرى ميلاد محفوظ أن أُسَجِّلَهُ في مُدَوَّنتي (مستوحية قراري من صديق عزيز، و ذكرى الحج التي لم يمض عليها كثير وقت، و حراك سياسي في بلدي تتمخض عنه آراء و جدالات). وأسترجع هنا مقولتين؛ الأولى لمُدَرِّس اللغة الإنجليزية الذي شَرُفْتُ بأن أكون تلميذته في الصف الثالث الثانوي، والذي دأب أن يقول في مَعْرِضِ مناقشاتنا لرواية "أوقات عصيبة" لتشارلز ديكنز: لا تُفْتوا عند الإجابة عن أسئلة القصة إن كان من المتاح سرد الإجابة على لسان أحد الشخصيات، إذ لن تأتوا بصياغة أعمق ولا أبلغ مما خطَّته قريحة المؤلف. أما المقولة الثانية فلذلك الصديق العزيز، في تغريدة له بمناسبة مئوية نجيب محفوظ: رغم أنواع الموت المختلفة ، نجيب محفوظ يبلغ المائة غدا. كل عام وأنت بخير يا نجيب.
فلنعد إذاً إلى المقطع سالف الذكر، حيث يستعدّ "رضوان الحسيني" للسفر إلى الأراضي المقدّسة لأداء فريضة الحج، وإذ يدعو له أحد أصفيائه بالعود الحميد، يَرُدُّ الحسيني فيقول:
- أخي لا تُذَكِّرني بالعودة. إن من يقصد بيت االله وفي قلبه خاطر من خواطر الحنين للوطن حقيق بأن يُبطِل الله ثوابه ويُخَيِّبَ دعاءه .. سأذكر العودة حقاً إذا فصلتُ عن مَهبط الوحي في طريقي إلى مصر، وأعني بها العودة إلى الحج مرّة ثانية إذا أذِن الرحمن وأعان. من لي بمن يُقِرُّني ماتَبَقَّى من العمر في البقاع الطاهرة، أُمسي وأُصبِح فلا أرى إلا أرضاً تطامنت يوماً لِلَمْسِ أقدام الرسول عليه الصلاة والسلام، وهواء خَفَقَت بتضاعيفه أجنحة الملائكة، ومغاني أصغت للوحي الكريم يهبط من السماء إلى الأرض فيرتفع بأهل الأرض إلى السماء، هنالك لا تطوف بالخيال إلا ذكريات الخلود، ولا يخفق الفؤاد إلا بِحُبِّ الله، هنالك الدواء والشفاء.. أخي، أموت شوقاً إلى استطلاع أفق مكة واستجلاء سماواتها والإنصات إلى همس الزمان بأركانها والسير في مناكبها والانزواء في معابدها وإرواء الغلة من زمزمها واستقبال الطريق الذي مَهَّدَهُ الرسول عليه الصلاة والسلام بهجرته فَتَبِعَتْهُ الأقوام من ثلاثمئة وألف عام ولا يزالون، وثُلُوج الفؤاد بزيارة القبر النبويّ والصلاة في الروضة الشريفة، وإنّ بقلبي من مكنون الهيام ما يَقْصُر الزمان عن بَثِّه، ولديّ من فُرَص الزُّلْفى والسعادة ما يعجز العقل عن تصوره..
- إنّ حبي للآخرة لا يدفعني للزهد في الدنيا أو التململ من الحياة، كيف لا وهي من خلق الرحمن؟ خَلَقَها الله وملأها بالعِبَر والأفراح، فمن شاء فَلْيَتَفَكَّر ومن شاء فَلْيَشْكُر، ولذلك أُحبُّها؛ أُحِبُّ الوانها وأصواتها، وليلها ونهارها، ومسرَّاتها وآلامها، وإقبالها وإدبارها، وما يدبُّ على ظهرها من حي أو يقيم عليه من جماد، هي خيرٌ خالص، وما الشر إلا عجزٌ مرضيٌّ عن إدراك الخير في بعض جوانبه الخفية، فيظنُّ العاجز المريض بدنيا الله الظنون. لذلك أقول لكم إنَّ حب الحياة نصف العبادة، وحب الآخرة نصفها الآخر..
ثم يذكر موت ابنه مستعبرا، و يستدرك:
- إن الله لا يفعل شيئاً إلا لحكمة، والحكمة خير، وسرعان ما غلبني السرور بإدراك حكمته على حزني، ولسان قلبي يقول: ربي، لقد وضعتني موضع البلاء لتختبرني وها أنا أجوز امتحانك ثابت الإيمان، مُلْهَماً حكمتك، "فاللهم شكراً"، وصار دَيْدَني إذا أصابتني مصيبة أن ألهج من أعماق قلبي بالشكر والرضا. كيف لا والله خَصَّني بالامتحان والعناية، وكُلَّما عبرت مِحنة إلى برِّ السلام والإيمان ازددت إدراكاً لما في مقاديره من حكمة وما فيها من خير وما تستحق بعض ذلك من شكر وسرور، وهكذا وَصَلَتِ المصائب ما بيني وبين حكمته على دوام لا ينقطع، فما عَدَوْتُ و وَقَرَ في اعتقادي أنَّ المصابين في هذه الدنيا هم أحبابُ الله و أولياؤه، خَصَّهُم بِحُبِّ مُقَنَّع لِيَرى إن كانو حقاً أهلاً لِحُبِّه ورحمته، فالحمد لله كثيراً..
ثم يسترجع معضلة الجزاء و الرحمة و الانتقام الإلهي، و مأساة حميدة (التي تُمثِّل السقوط في مقابل تمثيله هو للفضيلة)، ويسترسل:
وغلبني استعبار، وقُلت لنفسي مُعَنِّفاً مُتَقَزِّزاً ماذا فعلتُ - وقد آتاني الله خيراً كثيراً - لِدَفْع البلاء أو التخفيف من وَقْعِه، ألم أَتْرُكِ الشيطان يعبث بأهل جيرتي وأنا ذاهِلٌ عنه بسروري وطمأنينتي؟ ألا يكون الإنسان الطيب بتقاعده عوناً للشيطان من حيث لا يدري؟ واستصرخني الضمير المعذَّب أن أُلَبِّيَ النِّداء القديم ، وأَشُدَّ الرِّحال الى أرض التوبة مستغفراً، حتى إذا شاء الله أن أعود، عُدْتُ بقلبٍ طاهر، وجعلت من قلبي ولساني ويدي أعواناً للخير في مملكة الله الواسعة ..
كل عام وأنت بخير يا محفوظ ..
No comments:
Post a Comment