دخلت الى الغرفة كأنها تراها لأول مرة، و داعبت أنفاسها رائحة السكون؛ نعم، عندما تسكن الأشياء تصبح لها رائحة هي مزيج من التراب و الهجران. فتحت أدراجها و دولابها لتخرج تلك الرائحة، ليس لأنها لا تحبها، فهي رائحة السفر و الاغتراب، و لكن لأنها فجأة صارت لا تطيق السكون. تريد أن تعيث أشعة الشمس فسادا في غرفتها، تريد أن تغرق الغرفة في طوفان من الضوضاء. لقد أمضت سنين طويلة تبحر في بحر هائج الأمواج، يظلم حينا و يشرق حينا، أحيانا كانت زرقته تغمرها بالحب، بالضحكات التي تؤلم قدر ما تبهج. و كثيرا ما أطبق عليها لونه الرمادي حتى لتكاد تشعر بخنجر ينفذ الى الأعماق، و لكنها ما جرؤت أبدا حتى الآن على أن تسحب ذلك الخنجر منها، قالت في نفسها "مكان هذا الخنجر هو أنا، و ألم هذا الخنجر أفضل، و الموت اذا سحبته سيكون بطيئا، مريعا، غارقا في الدماء." و طوال ذلك الوقت الذي أمضته تحارب الأمواج المتلاطمة حينا و المتصالحة حينا، كانت لا تعرف إلا أن تحرك ذراعيها، رغم أنها لم تعرف كيف تعوم، و كانت تخاف أن تغفل فتغرق و تبتلعها الأعماق. و لكن في ليلة مظلمة منهكة، استسلمت، توقفت ذراعاها عن سباقهما المحموم، و تمددتا على جانبيها بلا حياة. خيل لها أنها تغرق، و خيل لها أنها ما زالت طافية، فتركت أنفاسها للهواء أو للماء أيهما يأتي، و أغمضت عينيها لتنعم بلحظة من اليأس قبل النهاية، و لكنها فجأة وجدت نفسها تمشي على الماء، تتعثر بالأمواج و تسقط، فتقوم لتمشي ثانية. قادتها قدماها للغرفة، و ها هي الآن، تستمع لأصوات السكون التي تصيبها بالجنون. إنها تريد أن تسمع هدير الأمواج، و صوت النوارس، و اللطمات التي تنال منها، و لكن البحر أصبح بعيدا، أصبح صندوقا بمفتاح نحاسي عتيق. وضعت الصندوق على طاولة في الغرفة، و أمسكت بالمفتاح لتدسه بين جنبات قلبها و جرح الخنجر، و سارت الى الشباك لتفتح لشعاع الشمس منفذا، علّ ذلك القبس يلقي بنوره عليها و على الصندوق، فلا يعود صدئا قديما، بل يبرق بأنوار الشمس، و يضج بأصوات الشمس، و يطرد رائحة السكون، و صوت السكون، و كآبة السكون
لقد عادت، و انها لتنثر أمنياتها فوق ذلك الشعاع، علّه ينفذ الى الأعماق المظلمة فينيرها، لترى شيئا جميلا بين الركام، و رائحة السكون
No comments:
Post a Comment