يسألني البعض: لماذا أكتب بالعربية الآن و قد كنت منذ زمن اتخذت لنفسي نهجاً أعبّر من خلاله عن نفسي و أفكاري باللغة الإنجليزية؟ الحق أنّي أعشق اللغتين، و أحب أن أتعلم فيهما كل جديد و أن أصقل استخدامي لهما باستمرار، و لكن صلتي بالعربية تبدأ منذ زمن بعيد، و هي الأقرب الى قلبي منذ تعلمت من أبي - رحمة الله عليه - القراءة في كتب الفلسفة و علوم الكلام و المنطق منذ كنت في السادسة. كان أول ما "قرأت" في الرابعة كتاب "الوعد الحق" لطه حسين! لم تتعدّ قراءتي تلك النّظر إلى الكلمات و "الخربشة" على الصور الإيضاحية، و لكن بعضاً من مقاطع الكتاب ظلّت عالقة بذاكرتي، كقصّتي خبّاب ابن الأرتّ و عمّار ابن ياسر، و أذكر أنّي احترت سنين طويلة في كيفية نطق اسم الأرتّ هذا، و لم أعلم أن التاء مشدّدة إلا عندما سمعت أحد الممثلين ينطقها في مسلسل ديني. كان أبي مدرّساً للّغة الإنجليزية و المنطق و الفلسفة و علم النّفس (و قد كان هذا يبدو غير منطقي، و لكن الأمر يتضح عندما عرفت أن عمله في ليبيا كان مرناً، و قد كان أبي في الأساس مدرّس علوم اجتماعية، ممّا مكّنه من التشعب عندما لزم الأمر). كان أبي يحضر الكتب المدرسية التي قام بتدريس كل هذه العلوم منها في نهاية كل عام دراسي، و كنت بدوري أنهبها نهباً، فقد كانت حياتنا خالية من اللعب و المتعة و الاختلاط بالأطفال الآخرين. في كل إجازة صيفية، كنت أُخرِج "صندوق" الكتب لأضع برنامجاً لقرائتها يمتدّ طوال الصيف، حتّى و إن كنت لا أفهم شيئا البتّة (و قد قرأت كلمة "البتّة" هذه لأول مرة في إحدى تراجم شكسبير، و لم أفهم معناها حتى بلغت المرحلة الثانوية! و لكنّ رنينها ظلّ في ذهني حتّى عرفت معناها) و قد تعلمت من هوايتي الأثيرة في قراءة ما يحوي "الصندوق" درساً لا يقدّر بثمن: يمكن أن أقرأ نفس الكتب في كل عام، و أجدها في كل عام كتباً مختلفة ذات جدّة تدهشني، لإنّني أقرؤها بعقل جديد و إدراك جديد؛ فقد تعلمتُ خلال ذلك العام كلمات جديدة، و تفتّحتْ لديّ مدارك جديدة. عندما تكشّف لي هذا الإدراك، جعلتُ دَيْدَني مع كلّ كتاب تقع عليه يداي أن أقرأه مرات أخرى في الأعوام التالية، فإنّي لا بدّ سأخلص منه بفهم جديد أكمل ممّا استخلصت في القراءة السابقة. هكذا تعلّمتُ أن أجعل الكتب أصدقائي، و القراءة لعبتي و مصدر معرفتي في هذا العالم، و لم أكن أسأل أبي في ما يستعصي على فهمي، واعتمدت على عقلي وعلى قراءاتي أن يساعد بعضها بعضا.
هكذا نشأ عشقي و صداقتي للّغة العربية، و رسخت في ذاكرتي صفحات من تلك الكتب لا أنساها إلى اليوم، من سيرة المهلهل و "لأقتلنّك بشسع نعل كُليب" إلى أشعار أبي فراس الحمداني و نقاشات ابن سينا و مدارس علم الكلام و قصص طه حسين وعبقرية عمر. و صرتُ كلّما وجدتُ كتابا ملقىً في الشارع (و قد تكرر هذا مرات عديدة لكتب قيمة جداً!) أخذتُه و نفضتُ عنه الرمال، ثمّ عكفتُ على قراءته عاماً بعد عام. و لن أنسى حزني العميق على كتبي تلك التي اضطررت لتركها ورائي عندما قررنا العودة إلى مصر، و لم يتفهّم أهلي وقتها قيمة تلك الكتب عندي. عندما عدت إلى مصر، أخذني الإيقاع الذي لا يرحم للحياة هنا، فنسيتُ الكتب، و إن لم أنس ما انطبع في ذاكرتي منها، ولم أجد هنا إلا مكتبة جدّي لأقرأ منها اليسير كلما تواجدتُ في بيته، و قد كان جدّي محباً للكتب و للّغة العربية، و كان يحب التحدث إليّ بالفصحى في أشرطة الكاسيت التي كانت وسيلة ذلك الزمان في الاتصال بين الأهل، وكم أنفقتُ من الوقت أقرأ خطاباته لوالديّ والتي كانت بلغة فصحى منمقة بديعة، وتمنيتُ لو كانت الفرصة أتيحت لي لأجالسه ونتحدث معاً عن كل تلك الكتب التي قرأتها. من كل هذه الظروف و "الجينات" نشأ عندي احترام لجمال و روعة اللغة العربية لم يذوي حتى الآن.
أمّا أنّي أكتب أكثر باللغة الإنجليزية، فالحق أنّي أشعر بارتياح عندما أكتب بها. ربما يكمن السر في هذا أنّ اللّغة الإنجليزية تمثّل عندي لغة العقل، فلغتي العربية عاطفية، شاعرية، مليئة بالحِكَم و الشجون و الإيمان، أما اللّغة الإنجليزية فهي لغة التحليل و التفكير و المنطق و العلم؛ هي لغة العلم الذي تخصصت فيه. و لكن السبب الأقوى في ظنّي هو أنّ العربية لغة نفسي؛ عندما أتحدث أو أكتب بالعربية فأنا أسبِر أغوار نفسي و أكشفها للجميع، بينما اللغة الإنجليزية تجيد تمكيني من إخفاء نفسي عن الناس وراء ستار من قلة ذرعهم بقراءتها. من الممكن أن تكون العودة للكتابة بالعربية توقاً مني في هذه المرحلة من حياتي لأن أكشف نفسي وأكاشفها، و ربما اشتقتُ إلى كتبي الحبيبة فأردتُ أن أذكّر نفسي بها، و لكن يبقى للّغتين عندي مكانة عظيمة، و لا تتفوق لغتي الأم الا في أنها لغة لا تمر على مترجم في عقلي، فهي من القلب للعقل.
1 comment:
رائع... سلمت يداكِ أستاذتي :)
Post a Comment