من حين لآخر يمر بخاطري العبق العربي، تلك الصورة الحسّية المغلفة بضباب من البخور و صدى أصوات قانون و عود و طبل. أتخيّل أن مارد مصباح علاء الدّين يستجيب لرغبات لا تبوح بها النفس، فيرسل في الآفاق داعياً سلاطين الخيال و طنافس من خيوط الذهب، لأجلس عليها و كأنني زرياب في ثوب إمرأة. هل أغني في خيالاتي تلك؟ أم أعزف و أرقص؟ قد يبدو خليط من كل هذا مثالياً، و الحق أن هذه الصورة ما باتت تداعب أفكاري و ترعبني، لأني ما كنت يوماً أحلم بأن ارتدي ثوب الجارية الحصيفة، و لكن الصورة باتت تجذبني لأبعاد عميقة؛ أن أمزج الخيال بلمسة مني أنا. أمن الممكن أن أجلس على طنفس ذهبي، تعبث بأفكاري دقّات القانون السحرية، و أتمثل نفسي في ثوب من الشفق الأحمر، لأتحدّث في العلم و أنا سارحةٌ في ضباب الماضي العابق بسحر ألف ليلة وليلة؟ هل أكون المفكّرة و المناقشة و الباحثة عن إجابات لكوامن النفس و أسرار الكون؟ هل أتحدث بالمنطق و الفلسفة عن الموت و الحياة و الغيب و البشر؟ هل أتلو أشعار الفرسان و أقتبس من أقوال الحكماء و الحمقى سواء لأذكّر نفسي بأشياء أدركتها في الماضي ولكنها فقدت مغزاها مع ضوء الشمس و قسوة النهار؟
إن اللّيل لساحر كذّاب! و لقد خبرت من ألاعيبه ما جعلني لا أئتمنه على عقلي، و إنّي لفي حلٍّ من أن أسلم نفسي لذلك الضباب الذي يخدّر الأعصاب و يمنح الحرية من الإلتزام بقواعد العقل المكبّل، لأنّي لا أضمن أن تحلو لي تلك الخيالات فأهرب في المصباح إلى وهم خافت الأنوار يهمس بأصداء الماضي. وعلى الرغم من أنّي كنت دوماً أكره الصباح و نور الصباح و ضوضاء الصباح الملأى بالعرق و أصوات الرّحا، إلا أن الصباح بات مرفأ الأمان من تلك القوّة السحرية الكاسحة التي يمتلكها المصباح.
كلّا، إن ذلك السحر لذو سلطان! و إن أصوات الملوك الغابرين و الأمراء الرّافلين في حلل لامعة لتناديني، فلأرتدي ثوباً من الوهم الجميل العابق ببخور المسك، و لأذهب إلى هناك مرةً أخرى، و لأشحذ ذهني بكل أسلحة المنطق والجدل، و لأشحذ روحي بكل التوق إلى السموّ. نعم، في ظل هذا الجو يكمن سموّ كما تكمن موسيقى، فبين الجدل و الحصافة و الفطنة تكمن لحظات التجلّي التي تدرك فيها النفس كنه النفس، و تتحدث الروح إلى الروح، و تفضي الأسرار بأسرارها، و تقنع الحكمة المنطق، و تستسلم الفلسفة للفطرة، و ينكشف الرّياء ليفسح مكاناً للصّدق الذي لا يحكم و لا يرجم. عندها قد أصل إلى كنهي و جدواي.
No comments:
Post a Comment