Saturday, December 24, 2011

ويح ‏ ‏عمار! ‏ ‏تقتله الفئة ‏ ‏الباغية

كان كتاب الوعد الحق لطه حسين من الكتب التي صاحبت سنّي طفولتي وآنسَت فصول الصيف الوحيدة المتتالية. وكنت قرأته بدءاً بتلوين رسوماته، ثم المرور على بعض فقراته دون فهم، ثم حفظ بعض الجمل التي رسخت في ذاكرتي عاماً بعد عام، ثم قراءته كاملاً. ولمن لا يعرف الكتاب فهو يعرض بأسلوب متفرد لقصص بعض الصحابة الذين سطروا تاريخ الدعوة النبوية. وكان هذا الكتاب من الكتب القليلة لطه حسين التي لم تَشُبْهَا كآبة الفقر المطحون، حيث أن الصحابة الذين تناولهم الكتاب بالرصد منذ بدأ الدعوة وحتى موتهم - وإن كانوا من الفقراء الذين لم يجتمع لهم الجاه و السلطان لا قبل النبوة ولا بعدها - قد كانت حياتهم مثالا للجهاد الحق والكَبَد الجميل الذي لا يطمح المسلم في أكثر منه ليخلد في التاريخ الإسلامي. وكان لهذا الكتاب نكهة أخرى لا أحسب أن الكثيرين سيحبونها؛ إذ أنه يعرض لتاريخ الصحابة في صدر الإسلام كبشر يخطئون ويصيبون، ولا يتحرّج من ذكر قصص التاريخ التي ترصد صراعات السلطة واختلاف الآراء دون "تخوين" أو انكار لعظمتهم.
يختتم طه حسين كتابه بتناول مقتل عمار بن ياسر، ولهذا مقدمة لا بد من ذكرها كي نفهم لماذا كان مقتل عمار بن ياسر مُهِمّاً ومُستحقاً لأن يكون ختام الكتاب - وملتصقاً بذاكرتي كل هذه الأعوام. وأصل القصة يبدأ أثناء بناء المسجد النبوي الكريم في المدينة المنورة، وفي هذا يُرْوَى الحديث التالي في صحيح البخاري في كتاب الصلاة - باب التعاون في بناء المسجد:

"حدثنا ‏ ‏مسدد ‏ ‏قال: حدثنا ‏ ‏عبد العزيز بن مختار ‏ ‏قال: حدثنا ‏ ‏خالد الحذاء ‏ ‏عن ‏ ‏عكرمة ‏ قال لي ‏ ‏إبن عباس ‏ ‏ولابنه ‏ ‏علي ‏ ‏انطلقا إلى ‏ ‏أبي سعيد فاسمعا من حديثه، فانطلقنا فإذا هو في حائط يصلحه، فأخذ رداءه ‏ ‏فاحتبى ‏ ‏ثم أنشأ يحدثنا حتى أتى ذكر بناء المسجد فقال: كنا نحمل لبنة لبنة ‏ ‏وعمار ‏ ‏لبنتين لبنتين، فرآه النبي ‏
صلى الله عليه وسلم ‏ ‏فينفض التراب عنه ويقول: ‏ ‏ويح ‏ ‏عمار، ‏ ‏تقتله الفئة ‏ ‏الباغية، ‏ ‏يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار. قال يقول ‏ ‏عمار: ‏ ‏أعوذ بالله من الفتن."

(وفي بعض الروايات أن الرسول الكريم كان يدعو عمار باسم أمه، فيقول "يابن سمية" وما أعظم هذا من تكريم للمرأة تتناقض معه تقاليدنا العجيبة في التحرج من ذكر اسم الأم أو الزوجة أو الأخت ..)


يذكر طه حسين هذا الحديث، ثم يستمر في سرد كيف أن حياة عمارٍ كلها تغيرت بعد هذه المقولة النبوية، فأصبح حريصاً أشد الحرص على اجتناب الفتن، مروراً بالعهود المختلفة للخلفاء الراشدين، حتى نصل إلى اللحظة الفاصلة؛ معركة صفين بين على بن أبي طالب كرم الله وجهه وبين معاوية ابن أبي سفيان. ولنقرأ معاً كيف صاغ طه حسين نهاية هذا الصحابي الجليل - ومعها نهاية صدر الإسلام وبداية الدولة الأموية:

ولم يشتد عمار في شيء بعد قتل عثمان كما اشتد في مناصرة عليّ ولا سيما حين ثارت الحرب بينه و بين معاوية. في ذلك الوقت استبان الحق لنفس عمار وقلبه وضميره، ولم يشك لحظة في أن علياً و أصحابه كانوا على الحق، و في أن معاوية و أصحابه كانوا على الباطل. ولم يُقبِل عمار على حرب خالص النية فيها لله ورسوله بعد وفاة النبي كما أقبل على حرب صفين. كانت مقالة النبي له "تقتلك الفئة الباغية" قد استقرت في أعماق نفسه، وكأنها ظهرت له جلية نقية ناصعة ساطعة حين خرج مع علىّ وأصحابه يقصدون قصد صفين. هنالك لم يشكّ عمار في أن معاوية وأصحابه هم الفئة الباغية، وفي أن هذه الحرب التي كانوا ينصبونها لابن عمّ النبي إنما كانت تشبه غيرها من الحروب التي كانت قريش تنصبها للنبي نفسه يوم بدر ويوم أُحد ويوم الخندق. فخرج عمار إذن إلى حرب صفين على بصيرة من أمره، قد أخلص قلبه لله ، ووهب نفسه لله، وابتغى الشهادة في صفين كما كان يبتغيها في المشاهد التي شهدها مع رسول الله صلّى الله عليه و سلّم.
...
وكان عمار في ذلك الوقت قد جاوز التسعين، ولكن الناس ينظرون إليه فإذا هو قد استرد من القوة والشباب والنشاء ما لم يكن لهم عهد به من قبل. كان أسرعهم إلى الحرب وأكرههم للقعود. وأحبهم للموت وأبغضهم للحياة، وكان مستيقناً يقيناً لا يعرض له الشك أنه على حق، وأنه يقاتل في سبيل الله. وقد اشتدّت الحرب في صفين يوماً ويوماً. فلما كان اليوم الثالث قال معاوية: هذا يومٌ تتفانى فيه العرب إلا أن تدركهم خِفَّةُ العبد. يريد بالعبد عماراً، ويريد بِخِفَّتِه شدة نشاطه في الحرب واستخفافه بما تحتاج إليه من مكر وكيد وأناة.
وفي هذا اليوم قاتل عمار نهاره كله حتى ملأ قلوب الناس عجباً و إعجاباً. وكانوا يرونه شيخاً طويلاً آدم، تُرْعِدُ الحربة في يده، وهو خفيف الحركة موفور النشاط، يسعى هنا وهناك، يُحرِّض هذا وذاك، وفريق من المسلمين يرقبونه ويتحدثون ببلائه، بعضهم يصحب جيش علىٍّ ولكنه لا يقاتل كخزيمة بن ثابت الأنصاري الذي سمع رسول الله صلّى الله عليه و سلّم يقول لعمار "تقتلك الفئة الباغية"، ورأى عماراً يقاتل مع علىّ فهو يرقب عماراً ليرى آخرته، وبعضهم مع معاوية يشهد الحرب ولا يشارك فيها، بلغته مقالة النبي في عمار فهو يرقب عماراً و ينتظر آخرته. ومن هؤلاء هَنِيٌّ مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه. في ذلك اليوم قاتل عمار وهو على رأس كتيبته حتى كانت العصر، فلما جعل الأصيل ينشر أشعته الشاحبة الحزينة على المقتتلين اشتد نشاط عمار وأخذه شيء يشبه أن يكون شغفاً بالموت، فجعل يحُثُّ من حوله على القتال و يصيح: الجنة تحت أطراف العوالي، اليوم ألقى الأحبة، محمداً و حزبه، و كان صائماً. فلما وجبت الشمس قال اسقوني. فَجِيءَ بشربة من لبن، فلما رآها ضحك و شرب ثم قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه و سلّم: "آخر زادك من الدنيا لبنٌ حتى تموت"، ثم جعل يُحرض الناس و يُعيد مقالته: الجنة تحت أطراف العوالي، الظمآن يَرِدُ الماء، الماء مورود، اليوم ألقى الأحبة، محمداً و حزبه.
...
وكانت راية معاوية مع عمرو بن العاص، فجعل عمار ينظر إليها ويقول: لقد قاتلت صاحب هذه الراية مع رسول الله صلّى الله عليه و سلّم ثلاث مرات وهذه الرابعة. وكانت راية عليّ مع هاشم بن عتبة بن أبي وقّاص، وكان هاشم أعور، فكان عمار يَحُثّه، يُغلِظ عليه مرة فيقول: تقدّم يا أعور، و يَرفُق به مرة أخرى فيقول: تقدّم يا هاشم فِداك أبي و أمي. وكان هاشم يقول له: رحمك الله يا عمار! إنما أنا أزحف باللواء وأرجو أن يفتح الله عَلَيَّ ويُبْلِغَني ما أريد، وإن في العجلة الهلكة. فيقول له تقدم فِداك أبي وأمي، ولم يزل به حتى يتقدم. فإذا رأى عمار صاحب الراية يتقدم بها صاح بمن حوله: من رائحٌ إلى الله! من رائحٌ إلى الجنة؟! ثم اندفع فقاتل حتى قُتِل.

وهنا نأتي لأقوى مظاهر اجتناب الفتنة حتى التيقن من الحق:

وقد رأى خزيمة بن ثابت مصرع عمارفقال: الآن استبانت لي الضلالة، ثم دخل فسطاطه فاغتسل، ثم لبس سلاحه ثم تقدّم، فقاتل حتى قُتِل.


ثم تأتي النقطة الفلسفية التي أوجدت أصل الاختلاف في تفسير الحديث النبوي عن عمار، والتي لازالت قائمة إلى اليوم :

وأما هنِّي مولى عمر بن الخطاب فقد عرف عماراً حين أسفر الصبح، فأقبل حتى دخل على عمرو بن العاص وهو جالس على سريره ومن حوله نفرٌ يتحدّث إليهم، فقال هنَي: أبا عبد الله، أُنْظُر أُكَلِّمك. فقام عمرو حتى خلا إليه. قال هني: عمار بن ياسر، ماذا سمعت فيه؟ قال عمرو: سمعت رسول الله صلّى الله عليه و سلّم يقول "تقتله الفئة الباغية". قال هني: ها هو ذا مقتول. قال عمرو: هذا باطل. قال هني: بصُرَتْ عيني به مقتولا. قال عمرو: هلُمّ أرنيه. فذهب به حتى رآه بين القتلى. فلما رآه امتقع لونه، ثم أعرض في شق وقال: إنما قتله من أخرجه.

...
وأقبل عليٌّ فصلَّى عليه و لم يُغسله وقال: إن امرأً من المسلمين لم يعظُم عليه قتل ابن ياسر وتدخل به عليه المصيبة الموجعة لَغير رشيد. رحم الله عماراً يوم أسلم، ورحم الله عماراً يوم قُتِل، ورحم الله عماراً يوم يُبعَثُ حياً.

No comments:

Template by:
Free Blog Templates