Tuesday, January 19, 2016

حِلِّي ضفايِرك

قالت لي صديقتي بنفاذ صبر غير راضية عن الطريقة التي ضفرت بها شعر ابنتها الطويل: "ايه اللي بتعمليه ده؟! انتي تنفعي انتي؟!". كانت التكملة المتوقعة التي تردد صداها في عقلي "تنفعي أم؟".
 

حدث هذا الموقف منذ سنين.
 

لي مع الضفيرة قصة طويلة، تبدأ هناك، في ذلك البلد العربي الذي نشأت فيه. في المدرسة، كان نصف شعري الأعلى دوما حبيس ذيل الحصان، ونصفه الأسفل متراصا في خجل حول نفسه، لا يجرؤ على الانطلاق في الهواء والتلاعب بخيالات الأولاد والبنات. كان دوما شعرا مؤدبا تتوارى خصلاته خلف بعضها، كما كنت أنا أتوارى خلف نفسي خائفة من الآخرين. كنت أقارن ملامحي البسيطة وملابسي البسيطة وشعري البسيط بالأخريات. كانت شعور زميلاتي دوما ضفائر لامعة ومهندمة، أحيانا تبدأ من مؤخرة الرأس وأحيانا تبدأ من قمته، أحيانا ضفيرة واحدة وأحيانا اثنان. لم تكن لتجد شعرة واحدة تشذّ عن الشكل الأنيق، وكانت "الفيونكات" المصنوعة من الساتان البراق الملون دوما هناك في آخر الضفائر لتضفي جوا لعوباً على الخصلات المنضبطة. كان اعتقادي حينئذ أن بعض البنات يولدن محظوظات هكذا: بشعر طويل مضفر وفيونكات ملونة. عندما ذهبت مرة إلى بيت صديقتي قبل الدوام الدراسي لنذهب معا إلى حفلة مدرسية، رأيتها لأول مرة بشعرها متحررا. كان مجعدا وكثيفا يكاد يملأ الفراغ كله، وتعجبت: هذه الضفائر ليست تعويذة سحرية تولد بها بعض البنات إذاً! كيف يتحول شعر كهذا إلى ضفائر منمقة؟ من يصنع المعجزة التي اسمها الضفيرة؟ جلست الفتاة في حجر أمها، التي أمسكت بزمام ذلك الشعر المتمرد وبدأت في صبر تضفره وهي تغني لها أغنية. كل ما دار في بالي وقتها كان: "لقد جرؤت الفتاة أن تجلس في حجر أمها! وإذاً فالأمهات هن أصل السحر ومصدر التعويذة!". لم تضفر أمي لي شعري أبدا، ولم أجرؤ على أن أطلب منها ذلك أبداً. لم أجرؤ لمدة طويلة على أن أطلب منها كثيرا من الأشياء. في نهاية الأمر تعلمت أن أضفر شعري بنفسي. كانت ضفيرة عشوائية مثيرة للشفقة، وكانت دوما تساعد الخصلات على التواري خلف بعضها بشكل منظم أكثر، ولكني لم أتمكن أبداً من أن أخضع كل خصلة وظلت دوما بعض الخصلات مستعصية على النظام.
 

هكذا تشكّل أحد أكبر أحلامي؛ أن تكون لي في يوم من الأيام ابنة، أُجلسها على حجري، وأضفر شعرها بحب وأنا أغني. أسكب في كل خصلة حباً خالصاً؛ حباً غير منمق ولا منتظم؛ حباً تلقائيا متسامحا مع الخصلات المتفلتة؛ حباً لا يهتم بالقواعد اللائقة؛ حباً يطلق تلك الخصلات من عقالها حتى وهي حبيسة الضفائر؛ حباً لا يسأل الخصلات أن تتوارى من الناس. لم يكن الحب الذي سأحبّه لابنتي ليشبه اللّاحب الذي كان من نصيبي، ولا الحب المنضبط الذي كان من نصيب الفتيات الأخريات، إذ أنني وإن أبهرني ذلك الانضباط إلا أنني لم أكن أرى نفسي أهلا له.
 

عالمة أن الحلم بعيد وربما غير مقدر، جلست في ذلك اليوم وابنة صديقتي أمامي، وشعرها بين يدي. في تلك اللحظة ضفرت خصلاتها بكل ذلك الحب الذي كان حبيس مخيلتي، وفي اللحظة التالية تلقيت الصفعة على يديّ، والتذكرة بأن ما فعلته لا يصلح، وأنني ربما لا أصلح لعمل الضفائر. ربما القواعد الصارمة التي تُخضع الضفيرة بموجبها الخصلات المتمردة ليست مسألة مظهر، وإنما تعكس أحد أسس التربية السليمة للبنت ..
 

لم أنس تلك اللحظة، ولكني لم أحتفظ بها في ذاكرتي لآسف أو ألوم. ربما سألت نفسي مراراً عن الخطأ الذي ارتكبته. ربما كانت المسألة أن التربية والعناية بالأبناء والبنات أمور صعبة، وربما كان الأمر أن صديقتي تحب الكمال، وربما كان الأمر أن صديقتي تعتقد في عدم جدارة أي شخص آخر لأن يفعل أمرا من صميم اختصاصاتها، لكني أدركت وقتها أن الأمومة شعور أناني بحت ومخيف في بعض الأوقات. ذلك الحب الجارف خطر وقاسٍ بنفس القدر الذي يمنح به الأمان والرحمة. أما الشيء الآخر الذي حدث فهو أني كرهت الضفائر؛ تلك المنمقة التي كانت حلم طفولتي وصباي. الفعل الأمومي الذي طالما حلمت به وظننته حباً واحتواءً تحول في نظري إلى فعل سلطوي عنيف. الضفيرة في البيت هي كما الحجاب خارج البيت؛ صرت أرى كليهما سجناً صُمِّم ليتسلّط على شعري حتى ينصاع للنظام ولا يتطاير مستجيبا لمغازلة الهواء ولا يداعب خيالات الحالمين. وكان القرار: لا أحلام مضفرة بعد اليوم.

تمردت وقصصت شعري كثيرا، وفي كل مرة كنت أقصه فيها كان يجرؤ على أن يطول ويطول. ثم استسلمت وتركت شعري طويلا، وكنت أطلقه فقط في الحديقة وفي شرفة البيت وأمام الشباك. كان دوماً حبيساً، حتى عندما سافرت إلى كندا، وكلما رأيت الكنديات بشعورهن الشقراء المنسابة كالحرير تلتمع وتتطاير في الشمس، كان شعري يتوسل إلي كي يرى الشمس ويشمَها، ويطير هو أيضا. كنت أوبخه برفق طالبة منه أن يفهم المحاذير ويقدر العواقب، ولكن الإلحاح كان يزداد؛ كان شعري يختنق كل يوم، وكنت أشفق عليه كل يوم. ثم في يوم صيفي جميل، قررت أن أقصّ شعري وأنتهي من إلحاحه الممضّ. ذهبت للكوافير الكندي الأشهر في كينجستون، وعندما جلست لأخبر العاملة عن الطول الذي أريد، وقالت لي: "شعرك جميل وكثيف!" فوجئت بي أقول لها: "اتركيه طويلا. قصي أطرافه فقط، ثم أعطني أجمل جلسة تزيين للشعر تجعله متموجا ومنطلقا."
 

لقد قامت تلك العاملة بعمل رائع. عندما انتهت من شعري، أمسكت الحجاب، ثم بدل أن أضعه على رأسي، لففته حول رقبتي، وخرجت.
 
هل ذكرت أنه كان يوماً صيفياً جميلاً؟
 
نعم. لقد حيتني الشمس بأجمل تحية، وعانقت خصلات شعري عناقا حاراً، وبدأ شعري يتحسس طريقه وسط نسمات الهواء، خجلا خائفا في البداية، ثم ازداد جذلاً مع كل خطوة أخطوها في اتجاه البحيرة. كلما جاءت نسمة هواء حياها في سعادة كان يخفق لها قلبي. كنت أخطو خائفة في البداية، ثم صرت أتقافز غير قادرة على احتواء ذلك الشعور الفياض بالحرية. وصلت إلى الحديقة المطلة على البحيرة الزرقاء الصافية، وكان الجو احتفاليا بديعاً؛ فرقة موسيقية تعزف ألحاناً مبهجة، تحلق الناس حولها يرقصون ويغنون. وقفت معهم أستمع، أغني، أصفق، وبعد لحظات لمحت فتاة تأخذ الصور للفرقة والحديقة والبحيرة، ثم تذهب لتجلس مع صديقتها. تملكني خاطر استحوذ على كل طاقتي النفسية للنصف ساعة المقبلة: أريد أن تأخذ تلك الفتاة لي صورة، أتذكر بها هذا اليوم.
 
أنا لا أطلب من الآخرين أبداً، حتى ولو كانوا أصدقاء، أن يلتقطوا لي صورة، وتتراوح الأسباب بين اللامنطقية المغرقة في الرثاء على النفس "أنا لست جميلة لأجرؤ على أن أعتقد أن صوري تستحق أن تؤخذ"، والأسباب الفنية البحتة "الصور الشخصية لا بد أن تعكس رؤية المصور لكون لحظة شخصية ما تستحق التسجيل، وإلا خرجت الصورة الشخصية مصطنعة ومبتورة". ربما تأملت أن يراني مصور محترف فيذهب عقله ويصر على أن يلتقط لي صورة، تماما كما يحدث في الأفلام الرخيصة :)

رميت كل هذا الهراء جانبا وتملكني إحساس أناني بحت هو أن أسجل تلك اللحظة التي ظننت أنها لن تتكرر، وأن أتجرأ لمرة واحدة فأطلب شيئا لنفسي وأقتنص فرصة بدل أن أمصمص شفتي تحسرا. أخذت خطوتين في اتجاه الفتاة وطلبت منها بصوت مرتجف أن تأخذ لي صورة، وكانت هي في منتهى اللطف ووجهتني للكيفية والمكان المناسب للصورة مبتسمة في حماس. كل ما دار في عقلي وأنا أقف مبتسمة لها بالمقابل هو "من أين جاءتني الجرأة لأفعل ما لم أفعله أبدا في حياتي وأجازف؟" ثم ضحكت ساخرة من نفسي أن يكون طلب التقاط صورة هو مجازفتي الأنانية الوحيدة في حياتي. جازفت قبلاً لأرضي الآخرين، ولم أسعد أبداً، بل وتسببت لعائلتي بالتعاسة مرات. انتبهت على صوت الفتاة وهي تقول: "بالمناسبة أنا أحب جدا لون قلم الشفاه "الروج" الذي تضعينه! إنه جميل جدا ولائق على بشرتك!" فابتسمت في سعادة وشكرتها، متذكرة كيف أنني في نوبة الجنون التي انتابتني وأنا خارجة من محل الكوافير أتقافز مع شعري، فاجأت نفسي بأن دخلت إلى صيدلية في طريقي لأشتري قلم حمرة جريء اللون، ووضعته عندما وصلت إلى البحيرة، ووقفت بكل جرأة أسأل فتاة كندية جميلة أن تأخذ لي صورة. هكذا صار عندي صور أتذكر بها هذه المغامرة. شكرت الفتاة مرة أخيرة، راغبة في أن أخبرها كم أسعدتني بمشاركتي لتلك اللحظات الاستثنائية في يومي. وعندما حان أخيرا وقت العودة للمنزل، جلست في ركن الحديقة ألملم شعري في كعكة كبيرة، وبينما أنا ألبس الحجاب، عزفت الفرقة أغنيتها الأخيرة، ولملم العازفون آلاتهم الموسيقية، وعم الصمت والسكون.
 
ظننت أني في ذلك اليوم أرضيت بعضا من شوق شعري للانطلاق، ولكن هيهات. الشعر الذي لفحته الشمس وعبث به الهواء وذاق طعم الحرية لم يكن ليستسلم بدون معركة أخيرة، مهما كان متعقلا ومدركا لكون الحرب خاسرة. لذا، قررت أن أذهب في رحلة أمنحه من خلالها فسحة الحرية الأخيرة قبل العودة. لم تكن الرحلة لساعة هذه المرة، وإنما كانت لثلاثة أيام كاملة في واحدة من أجمل مدن كندا. مشيت لساعات كثيرة في اليوم الأول، ومشيت لساعات كثيرة في اليوم الثاني، ومشيت لساعات كثيرة في اليوم الثالت. تولدت لدي طاقة خارقة للمشي طوال النهار والليل. في اليوم الثاني، قررت أن أتجرأ وأتحدى خوفي من المرتفعات وأصعد لأعلى برج ساعة شهير بالمدينة. من أين جاء كل هذا الجنون؟ّ! لست أدري، ولكنني قررت لحظتها أن أعقد سلاما مؤقتا مع الضفيرة، وأن أضفر شعري بشيء من ذلك الحب الأصيل الذي كنت أختزنه لابنتي تلك التي لم تأت. في تلك اللحظة أدركت أنني يمكن أن أتسامح مع الضفيرة كما أتسامح مع الخصلات المتمردة. انطلقت أقفز درجات سلم البرج خمسين في المرة الواحدة قبل أن آخذ نَفَسي لأستريح. صعدت مائتين وخمسين درجة، ولم تئن ركبتاي من الجهد، ولم أشعر بالتعب قدر ما شعرت بالبهجة. كنت وحدي فيما كان الآخرون مع أصدقاء وأحباء وأهل، ولكني لم أكن حزينة، ولا شعرت بالشفقة على نفسي. كنت حقا سعيدة عندما نظرت أخيرا إلى المدينة من أعلى نقطة في البرج. 



هل يُعقل أن يكون شعري في حريته قد أكسبني قوة جبارة كما قوة شمشون؟ ربما قصة شمشون وشعره هي حرفية وليست رمزية في نهاية الأمر. ربما كان كسري لحاجز واحد كسراُ تلقائيا لكل الحواجز. ربما لم يُخلق شعر المرأة ليظل حبيس الضفائر والحجاب، وربما لا يجب أن أعتبر الاثنين سجناً، ولو فقط من أجل أن أتعايش مع واقعي. ربما عليّ أن أتحرر من حلم الأمومة رغم علمي بجمال الحب الذي كنت سأحبه لابنتي، لأنه قد كان يمكن أن يتحول لسجن يخنقها عوضا عن أن يحررها، وكان يمكن أن يطلقها من عقالها فتكون حرة مجنونة في مجتمع لا يعترف بالحق في الحرية والجنون. كان يمكن لهذا الحب أيضا أن يجعل من ابنتي فتاة رائعة تعرف كيف توازن بين الحرية والجنون وبين النظام والانضباط، ولكني ربما لن أعلم أبدا، وقد تعلمت أن أقبل بهذا الاحتمال، وأتحرر من الحسرة على عدم حدوثه.
 
عندما عدت إلى غرفة الفندق في نهاية اليوم بعد مغامرة برج الساعة تلك، لم أغسل شعري، واستلقيت في سريري مع ذلك التعب اللذيذ الذي يبعث الخدر في الأطراف والحواس فلا تعود ترغب في الحركة. انتبهت إلى نفسي أشم في شعري لأول مرة في حياتي شذى الشمس والهواء والحدائق وضحكات الناس ممتزجين برائحة العرق. كم كانت الرائحة عبقة وحسيَة! ظللت أتشممها في شغف، عالمة أنني ربما لا أشمها مرة أخرى. أعتقد أن صانعي العطور لا بد أن يستخلصوا عطرا جديدا من الشعر الذي اختلط فيه العرق بالشمس بالهواء بالحدائق، بالانطلاق، بالبهجة، بالحرية. ربما أضع هكذا عطر في مغامرة قادمة، أركب فيها سيارة مكشوفة وأسمع أغاني لمحمد منير، وشعري يطلق أشرعته بالكامل ليقودني إلى البراح. أعتقد أنه من اللائق أن يكون اسم العطر: حرية.

No comments:

Template by:
Free Blog Templates