Wednesday, March 8, 2017

جِدِّي العزيز

جدّي العزيز، "جدّ ميرفت" زي ما كنت بتحب تمضي جواباتك

رغم إني معرفتكش في حياتك يا جدّو، إلا إنك مش هاتتخيل قد إيه واحشني ونفسي أشوفك وأقعد معاك. واحشني جدّو اللي عرفته من جواباته وعرفته من كتبه. فاكر يا جدّو جواباتك اللي كنت بتبعتها لأهلي في الغربة؟ أنا أرشِفْت الجوابات دي، وضمّيتهم بين دفتين دوسيه محترم في دولابي، وكل فترة لازم أطلّعهم وأقراهم، علشان أفضل فاكراك، وكمان علشان أفضل فاكرة أنا كنت إيه في عينيك وفي قلبك. أنا كنت حدّ اتحبّ، وتغريبتي وجعت حدّ. عرفتك يا جدّو في جواباتك، اللي سكبت بين سطورها حتّة من روحك المعذبة بالفراق والقلق والوَحْشة. كنت انت في وَحْشة وكنت أنا في وَحْشة. وحشتي زمان أصبحت جزء مني، ودلوقت بتتبدِّد كل ما أمسك جواباتك، وأقرا فيها اللي كتبته عني، ويعزّيني إنك كنت بتفتكر ميرفت الصَّغِيرة تقوم وحشتك تتبدّد ولو قليلاً. فَرَق معايا فوق ما أقدر أوصف يا جدّو إنك كنت حاسس بهشاشة الطفلة الوحيدة مع أم وأب مطحونين في الشغل. حسّيت ووصّيت، وشدّدت في السؤال وشدّدت في الوصاية. كنت ملء قلبك وتفكيرك زمان، وانت دلوقت باستمرار في قلبي وفي تفكيري، بس انت شفتني، وأنا ماشفتكش. انت لحقت أيام سعادة من عمر الزمن اللي بيننا، وأنا مليش غير الجوابات أتخيل منها مقدار السعادة اللي كان ممكن تنعم بيها عليّا. قاسي جدّاّ يا جدّي التفكير في الفرص الضائعة والسعادة الفائتة اللي بيسرقها منا الزمن ويلوّح لنا بيها علشان نقاسي مرتين؛ مرة بِفَوات السعادة، ومرة بإدراكنا لوجودها ..


يا ترى لو كنت وعيت عليك وعشت معاك كنت هاحبّك زي ما حبّيتك من جواباتك؟ مَحَبِّتك الغامرة اللي بتنطق بيها كلماتك، واهتزاز صوتك اللي لم يخجل إنه يِنْكِسِر مستعطفاً أهلي إنّهم يسيبوني معاك، بيقولوا إنّي أكيد كُنت هاحبك، بسّ أنا لعينة يا جدّي؛ ممكن جدا لو كنت نعمت بِمحبّتك وحنانك كنت أشوف نفسي ومحدّش يقدر يكلمني. ممكن جدا مكنتش أبقى أنا، بكل مشكلاتي وعقدي وأزماتي الوجودية؛ كنت بقيت بنت دلوعة وحلوة ومحدّش كان يقدر يستحملني. أنا، بسبب مشكلاتي وعقدي وأزماتي الوجودية وبالرّغم منها، مُحْتَمَلة يا جدّي. بس الجزء الغير لعين مني حاسس إني كنت هابقى إنسانة سويّة ومتفتحة للدنيا والناس ومش شايلة لهم همّ؛ إنسانة بمشكلات بسيطة وعُقد سهل تِتْفَكّ وأزمات وجودية تحلّها قعدة معاك تنوّرني بفيض حِكمتك.




صغيرتك، "مهجة قلبك ومنية نفسك"، "العزيزة الغالية الخفيفة الذكية" تِعْبِت كتير يا جدي، وكان نفسها تكون موجود علشان كانت تقدر تترمي في حضنك وتعيط وهي واثقة إن محبّتك ليها هاتطبِّب جروحها الصغيرة. زيّ ما انت اشتكيت لأهلي من وحدتك بعد ما سبتكم، أنا كمان فضلت وحيدة كتير يا جدي، وعلى قد ما وصّيتهم يبعدوني عن الشبابيك، مكانش ليّا رفيق لِسِنين طويلة غير الشبابيك؛ أبصّ من وراها في الطفولة الأولى على دنيا فرحانة وأتمنى أفرح زيّها، وأبصّ من وراها في المراهقة على ولد يعجبني وقلبي له يدقّ. يا ترى يا جدي لو كنت حكيت لك كنت هاتفهم وتضحك وتقول لي ده عبط يا بنت وبكرة تكبري وتتجوزي سيد سيده، والّا كنت هاتغضب وتخاصمني؟ أنا مخرجتش بره الشبابيك يا جدي؛ بيتهيأ لي إني لحد دلوقت لسه محبوسة جواها، لسه باتفرّج ع الدنيا من بعيد، ولسه مستنية ولد قلبي له يدقّ. 


كإني لما كنت معاك يا جدّو كنت ممكن لو شفت قطة أناديها وأحاول أنط من البلكون؟ تخيل يا جدّو إني لحد دلوقت لسه فيّا الداء ده؟ لو كنت كبرت معاك يا جدّو زيّ ما اتمنيت كنت هاتحايل عليك تجيب لي قطة، وكنت ألعب معاها وانت معانا، ونضحك كلّنا في بهجة خالصة لِوَجه الحياة الحلوة الهنيّة. في وحدتي هناك مش بافتكر نفسي وأنا باضحك يا جدّو. يبدو لي إنّك الوحيد في الدنيا يا جدّي العزيز اللي أشفق على وحدتي وسط الكبار، ولكن يعزيني إنك قاسيت من الوحدة زيي، وإنها لتعزية قاسية جدّاً؛ إنّي ممكن أتوّنس بمآسي الآخرين. كنت انت وحيد في شقّتك، بتفكر أنا عايشة ازّاي، وكنت أنا وحيدة في بيت غريب، معرفش الأطفال الطبيعية بتعيش ازّاي. كنّا احنا الاتنين أشقياء بوحدتنا، لكن أنا أخدت وقت علشان أُدرك، وانت عشت الألم كامل أيام وسنين. جواباتك عرّفتني إنّك عشت آلامك وعشت آلامي بالنيابة عنّي. معلشّ يا جدّي، ياريتني كنت أقدر أبعت لك فرفشة من هنا للعالم الآخر.. طيب تعرف يا جدّو إنّ لمّا لساني بدأ ينطلق بالكلام كنت باغنّي تِتْر فوازير "الخاطبة" وحافظاه صمّ؟ أنا متأكدة إنّك كنت هاتحب تسمعني باغنّيه ياجدي، وكنت هاتصقف وتغني معايا كمان! أصلك قلت عليّا "كَرَوان" لما سمعتني في شريط الكاسيت. كنا هانغنّي "الخاطبة" سوا يا جدّو، والقطّة بتلعب حوالينا، ونضحك كلنا في بهجة.


ياترى ممكن يكون انطباعك إيه يا جدّي عن ميرفت الكبيرة؟ كنت هاتحبها برضه وماترضاش بصحبتها بديل؟ التاريخ بيقول إننا كنا ممكن نصطدم في وقت من الأوقات؛ انت راجل مستقر في تقاليدك ومطمئن في قناعاتك، وأنا واحدة قَلوقة مُستَنْفَرة للاعتراض عند أي تحدّي. بس برضه يا جدو ممكن تعجبك حاجات في ميرفت الكبيرة. تعرف يا جدّو إني باكتب؟ على قدّي يعني، ساعات بالفصحى اللي بتحبها، وساعات بالمصري اللي كنت بتستخدمه لما قلبك يفيض بمشاعره، وساعات بالانجليزي. كنت أحب يا جدّو لو تقرا اللي باكتبه، وتقول لي رأيك، وتصحّح لي اللغة، ونتناقش في الصياغة وفي الأفكار. يا ترى كنت هاتفضل على رأيك في كلماتي "العذبة اللطيفة الرشيقة"؟ وهل فعلاً أنا كنت أحفظ "قاموس شتائم" يا جدو؟ 😄 أطمّنك بما إنّك سألت إنّي لم أنس شيئاً بل أمتلك قاموس شتائم هايل بيزداد ويتوسع كلما امتدّت بي الحياة وشفت منها ما يغيظ ويفرس. أفتكر يا جدو كنت هاتضحك لما تسمعني باشتم وأنا غضبانة على الدنيا واللي فيها، لكن يجوز برضه إنّي كنت أتهذّب بفضل توجيهك ليّا، وأتسامح مع الدنيا وساكنيها بفضل محبّتك ليّا. 

كنت أحبّ كمان لو تسمح لي أكتب لك اللي يخطر على بالك علشان ماتتعبش نفسك. نقعد سوا في أوضة مكتبك اللطيفة، تقعد انت على كرسي الصالون اللي باحبه، وأقعد أنا ورا المكتب، تملّيني وأنا أكتب. كنت باحب الأوضة دي قوي يا جدّو. غير باقي أوض الشقة اللي كان فيها حميمية، أوضة المكتب دي كنت باشوفها محراب علم وتأمّل، وبوّابة للماضي مش أي حد يقدر يعبرها. لمّا كنت أزور تيتة، وتدخل تنام وقت العصريّة، كنت أنتهز الفرصة وأدخل الأوضة بشويش، وأفضل أمرّ بأطراف الأنامل على المكتب، وحروف كنب الصالون، وأقف قدام المراية المتعلّقة في نصّ الحيطة، وأبصّ على نفسي، وأبصّ على صورتك اللي متعلقة جنبها، ويتهيّأ لي إنّي لو وقفت هناك ساكنة بما فيه الكفاية، بوّابة العبور للماضي هاتفتح لي، وهابصّ ألاقيك هناك ورايا، جنب المكتبة.

المكتبة دي يا جدّو حدوتة.



قد إيه كنت باحب المكتبة بتاعتك يا جدّي، كانت كتبك مرصوصة على الأرفف الخمسة بأناقة وترتيب، بأغلفتها الأنيقة المتناسقة، وإسمك المطبوع عليها بِمَيّة الدهب، واللي كان في آخره اللقب اللي أمي مابتحبّوش، وريحتها؛ ريحة الكتب الكلاسيكية اللي نَعِمت بكل عناية واهتمام. كتب كما الخمر الفاخر المُعتّق في قبو قديم. تعرف يا جدّو إني كنت باخاف أمدّ إيدي على الكتب دي عشان ما أبهدلهمش؟ أول مرة لمست فيها الكتب دي كانت بعد وفاة تيتة الله يرحمها، لما الإخوات قرّروا يبيعوا المكتبة بمحتوياتها. قرّرت أشتريها أنا، وكان أسهل قرار خدته في حياتي. كان قرار بديهي مش محتاج حسابات، مش بس علشان أنا باحب الكتب، لكن كمان ده كان الإرث الوحيد اللي فاضل لي منك. طبعاً أنا باعتذر لك يا جدّي إنّي اضطّريت أنقل الكتب في صناديق كتيرة من القاهرة لبيتنا. كنت أتمنى لو أقدر أنقلها في بيتها الخشب اللي انت اخترته لها وفِضْلت فيه سنين مُعزّزة مُكرّمة، لكن ما باليدّ حيلة. نقلتها في الكراتين، وفضِلت ساعتين على الطريق أتخيل اللحظة اللي هاوصل فيها وألمس الكتب دي أخيراً. تعرف يا جدّو إني ماقدرتش أستنّى وفتحت الكراتين وبدأت أرتّب الكتب لمجموعات وثيمات؟ عارف قدر السعادة اللي ملا قلبي وعقلي طول الليلة اللي فضلت أرتّب فيها الكتب دي؟ 



كنت بافتح كل كتاب، أقرا منه صفحتين، أشمّ ريحته، أدوّر على أيّ حاجة تكون كتبتها في مقدمته أو هوامشه، أي رسالة تكون سبتها لي، أي جواب تكون بعتتهولي على أمل إني أقراه في المستقبل. طلعت بتحبّ تكتب في الهوامش يا جدّو! أنا كمان باحبّ أعمل كده. احنا الاتنين يا جدّي عارفين إن الكتب دي مِلكيّة مُقدّسة، وإنّ الكتابة في الهوامش علاقة شخصيّة جدا بين الإنسان والكتاب، علشان كده مش هاكتب في هوامش كتبك يا جدّو، وإن كنت هاسمح لنفسي إني أتطفّل على علاقتك بيهم، وأفهم إيه اللي كان بيلفت نظرك لدرجة إنك تشتبك معاه بالكتابة. 


قضيت ليلة سحرية بين أغلفة وصفحات كتبك، واتهيّأ لي إن البوّابة وقتها اتفتحِت، وعدّيت منها وقضيت الليلة معاك وسط الكتب بنرتّبها. ليلتها اعتذرت لكل كتاب فيهم وأنا باتعرّف عليه عن البهدلة اللي شافها في رحلته من طنطا للقاهرة للمحلة، ورتّبتهم في مكتبتنا المتواضعة، ووعدتهم، وباوعدك، إني هاحافظ عليهم، وأقراهم، وأحفظ جوارهم الكريم. مكتبتك الجميلة يا جدّو في عينيّا، ماتخافش عليها، وكل ما آخد منها كتب أقراه، هاختار منه الأجزاء الحلوة وأقراها لك بصوتي "الموسيقي الجميل".

صحيح يا جدّو نسيت أسألك، انت قريت كلّ الكتب دي؟ قريتها كام مرة؟ زمان كنت باقرا الكتب اللي تقع تحت إيدي مرات ومرات. دلوقت أنا كسولة ومش قادرة أخلّص الكتب اللي عندي. أنا برضه يا جدّو باشتري كتب وبأؤسس لنفسي مكتبة على قدّي، بس أنا لسّه موصلتش لمرحلة إني أعتني بكتبي وأغلّفها وأنقش إسمي على كعبها بمية الدهب. أكيد هايجي اليوم اللي فيه أكون قريتها كلها، وماتخافش، أنا مش هانسى وعدي ليك إني أقرا كتبك. طبعا أنا مجمّعتش مجموعتي ومجموعتك في مكان واحد! إش يوصّلني إني أجمع اختياراتي المتواضعة بمجموعتك الثمينة من أُمّهات الكتب. يا ترى يا جدّو كان هايبقى رأيك إيه في اختياراتي؟ ياريت كنت أقدر أتكلم معاك عن الكتب اللي قريتها، وأسمع منك عن الكتب اللي قريتها انت. أعتقد إنك الوحيد اللي كنت مش بس هاتفهمني، لكن كنت هاتتحمس معايا للنقاش في اللي قريناه. ياه يا جدو .. قدّ إيه كنا هاننبسط بوقتنا مع الكتب.

جدّي الحبيب، أنا معرفش عبد الستار موجه التربية والتعليم، ومعرفش عبد الستار الأب والزوج؛ أسمع عنهم بس. يمكن القريبين منك واللي عاشوا معاك وعاشروك كانوا شايفينك قاسي شويتينو عرفوك بصورة مختلفة عن اللي في خيالي، ويمكن يستنكروا في سرّهم رومانسية الصورة اللي ليك في خيالي، وأنا أتفهّم تماماً لو استنكروا. لكن أنا ماشفتش، وماقريتش، وماسمعتش منك غير كل عطف صادق وحنان جمّ، لو كنت نعمت بعُشرهم كنت يمكن بقيت إنسانة تانية، قادرة أحب الدنيا وأحب نفسي، يمكن مكنتش اهتميت بالقسوة اللي شفتها من ناس كتير، مدام كنت دايماً هاقدر ألاقي محبّتك الفيّاضة تغمرني ولو من حين لحين. أما وإنّ الأقدار كان ليها تصريف تاني، فمليش عزاء عن كل هذا العطف المفقود غير في أحلى حاجتين اتفضّلوا لي من ريحتك: لطائف جواباتك، أقراها وأبكي، وأضحك، وأتعزّى بإن فراقي قطع بيك زي ما قطع بيّا إني ماوعيتش عليك ولا إن القدر أسعدني بجوارك؛ وكتبك، أصاحبك فيها، وأونسك في أبديّتك بإني أقراهم لك في وقت ما، ولعلّه يكون قريب. 

حفيدتك المحبة، ميرفت
2017


No comments:

Template by:
Free Blog Templates