Thursday, June 14, 2018

الستّات بهجة الكون

يهلّ العيد بعد يومين.
طول رمضان، الستّات في مصر بيكونوا مشغولين في المطبخ، والسنة دي كمان مشغولين مع ولادهم في الامتحانات، واللي بتشتغل عندها كمان شغلها. الأيام السابقة على العيد بتكون أيام طاحنة لكتير من الستّات في مصر، علشان التنظيف والكحك والبسكوت. ولكن، في خضمّ الزحمة دي كُلّها، في آخر يومين قبل العيد، كتير من الستات لازم تخطف وقت تروح فيه للكوافير اللي جنب بيتهم، علشان يتجمّلوا في طقوس بسيطة احتفالًا بالعيد. التجمّل ده ممكن يكون بطُقوس بسيطة زي تهذيب الحواجب، وممكن يوصل لغسيل وقص وصبغ وسيشوار الشعر لو الستّ مستغنية عن ليلة كاملة. يمكن يكون وقت الكوافير ده الوقت الوحيد في الأعياد والمناسبات اللي الستّات دول بيكرّسوه لنفسهم همّ وبس. أنا في العادة مابروحش، لاعتبارات الكسل وكره الانتظار، لكن امبارح قررت إذ فجأة إني أروح، وقلت أدلّع نفسي بعد زمن كتير قوي مكنتش خصّصت الوقت لطقوس الدّلع دي. المكان اللي رحته كان زحمة جدا؛ صفوف من الستّات والبنات قاعدين، وصفوف واقفين، والكل منتظرين إن أربعة يخلّصوا مع العاملات الأربعة في المحل؛ ستّ وبنتها أصحاب المكان، وبنتين كمان بيشتغلوا معاهم. وطّنت نفسي إنّي أنتظر وأمارس هوايتي في الفرجة على الناس ومراقبة تصرفاتهم، وكلّها ساعة والّا اتنين والحكاية تخلص. قعدت في ركن جنب باب المحل، ومن مكاني كنت أشوف الداخل والخارج، وأكشف كل المحل بنظرة واحدة. بعد الامتعاض الأولي من الزحمة والحر والخنقة والدوشة، لقيتني باتأمل في اللي حواليّا.
بالتأكيد ده مكانش محل كوافير يشبه الكوافير اللذيذ الشيك اللي في فيلم "سكّر بنات"، ولا العاملات فيه يشبهوا الستّات اللبنانيات الحلوات الرشيقات الدلوعات في الفيلم، ولا روّاده يشبهوا الستّات اللي بتحب تاخد بالها من نفسها ومن زينتها وعلى طول "على سنجة عشرة".


كتير من المصريّات اللي بيروحوا الكوافير اللي جنب بيتهم بيقابلوا نفس تيمة العاملات اللي أنا شفتهم امبارح؛ الست صاحبة المحل ستّ عادية خالص، لابسة لبس عملي وباهت، ولامّة شعرها أو "قامطاه" بإيشارب صغير، والبنات اللي معاها في المحل إمّا بنات كبار متجوزين يشبهوها في الهيئة، أو بنات صغيرين لسه حابّين يفرحوا بشبابهم، فممكن تلاقيهم لابسين ستريتشات أو جينز وعليهم تي شيرت أو بلوزة، وغالبا كاشفين شعرهم عشان مايتكتّفوش في حرّ المكان. تكاد التيمة دي لا تختلف في معظم "كوافيرات الجيرة"، اللي هي مش أسماء كبيرة ولا مُلّاكها رجّالة. الستّ وبنتها امبارح كانوا الاتنين المتجوزين الباهتين، والبنتين التانيين كانوا من الدرجة الأكثر إشراقا؛ لسّه مشالوش هموم أكبر من زحمة الشغل. وكتير من المصريّات اللي بيروحوا الكوافيرات دي يشبهوا الزّباين اللي كانوا موجودين امبارح؛ بنات صغيرين كتير، وشويّة ستّات في متوسط العمر، وستّات أقل كبار في السنّ. 
البنات الصّغيرة كانوا حواديت صغيرة. كان فيهم واحدة جايّة مع مامتها بتعمل حواجبها لأول مرة، وكانت تعبيرات الدهشة من النتيجة بتتنطّط في عينيها، ممزوجة بالترقّب لردّ فعل مامتها على النتيجة دي، وأمنيتها إن الأم لا تعترض وتقول "رفيّع" وتصدر فرمان إن التجربة دي ماتتكرّرش تاني. لمّا العاملة خلصت نصّ الوش وجت الأم تبصّ على النتيجة، كنت تشوف في عيون البنت نظرات الرجاء والفرحة وهي بتلمس حاجبها وتقول لمامتها "حلو يا ماما؟". لما البنت دي خلصت، وبصّت لوشّها في المراية، وبصّيت أنا على تعبيراتها السعيدة سعادة غير عاديّة، حسّيت إن تهذيب الحواجب ده تحوّل لـ "rite of passage" أو طقس مصغّر تمرّ عبره البنت من مرحلة الطفولة لمرحلة الأنوثة. خلّصت البنت دي، وابتدت بنت مليانة شوية، قعدت في هدوء وخلصت في هدوء، ولا ضحك ولا ردود أفعال إلا من ابتسامة خفيفة بعد ما خلّصت وشافت النتيجة. مفيش زقططة ولا تأملات. كتير من البنات الصغيرة المليانة، لإنهم بيحسّوا أو أهاليهم بيحسّسوهم إنهم دايما في وضع مقارنة مع رفيقاتهم الرشيقات، بيكونوا حريصات أكتر إنهم يحصلوا على نتيجة كويسة عند الكوافير، لكنّهم بيبقوا قاعدين خايفين ومحتارين يخبّوا نفسهم ازاي، عشان مايبقوش مكشوفين لعيون البنات والستات اللي تقييمهم ونقدهم لا يرحم، حتى وهمّ فيهم العبر.  
البنات الصغيرة كانوا بيخلصوا بسرعة، ويجروا على برّه مستعجلين على الحرّية من المكان، ما عدا البنات اللي جاية مع مامتها، واللي كان لازم ينتظروا عشان أمهاتهم كمان لازم يضبّطوا نفسهم. استغربت جدّا إن الأم الصارمة اللي كانت بتراقب بنتها اللي جايّة الكوافير أول مرة، هي كمان قامت تعمل حواجبها بعد بنتها. انطباعي كان إنها واحدة من الستّات اللي شايفة إن عمل الحواجب حرام، وإنها ممكن تكون رضخت لإن بنتها تعملهم كتجربة. معرفش ليه ساعتها فكّرت إن دراسة علاقة الستّات بحواجبها على مر السنين والتحكّمات اللي مورست لقتل العلاقة دي بقواعد الحرام والحلال والمكروه ممكن يكون كاشف لكتير من الحاجات. هي إيه الحاجات دي معرفش، لكن أكيد فيه حاجات ممكن تتكشّف. كتير من الكوافيرات وكتير من الستّات في مصر كانوا وقَّفوا تهذيب الحواجب تمامًا، التزاماً منهم بكلام المشايخ إن ده فعل حرام ويجلب اللعنة. لكن كتير من الكتير دول رجعوا تاني يشتغلوا ويطلبوا ده، إمّا عشان بطّلوا يقتنعوا، وإمّا على أمل إن ربّنا يهديهم بعد شويّة ويرجعوا يبطّلوا. المهم إن الأم خلّصت، وزي ما عملت مع بنتها بنتها عملت معاها؛ جت تبصّ عن قرب على النتيجة، بس طبعا مش بعين المراقبة والنقد، ولكن بعين الاطمئنان والمشاركة. أخيرا البنت بتشارك مامتها تجربة "ستّاتي" خالصة، وتتحوّل التجربة دي لواحدة من "الأسرار" اللي مايصحّش الرجّالة تطّلع عليها.
لكن الستّات التلاتينية بتروح الكوافير على أمل إن رجالتهم "تطّلع" وتاخد بالها من الوشّ المرسوم ومن الشعر المفرود. أصل الجسم الممشوق ده عند كتير من الستّات المصريّات اللي اتجوّزوا وخلّفوا بيصبَح أسطورة من الماضي صعب تُبعث من جديد. شفت كتير منهم بيحاولوا في الجيم، وبيحاولوا مع تنظيم الأكل، لكن الحرب دي شرسة وأبديّة وعايزة نَفَس طويل وتركيز وإمكانيات لا يتوافروا لكتير من الأمهات المصرية، اللي بتعتبر إنه عيب تركّز مع نفسها مدام فيه زوج وبيت وأولاد همّ أولى بالوقت. يصبح الوشّ والشّعر الحلوين هم عوامل الجذب والتباهي الشخصي المتاحة، إلى جانب الشنط والجزم، وإلى حد ما اللبس، اللي  برضه عليه تحكّمات وممنوعات. ده كان حال الستّ اللي خدت الدور؛ ستّ تلاتينية مليانة وجسمها غير متناسق، كانت بتصبغ شعرها، ولسه عايزة تعمل له سيشوار، والدنيا زحمة والستّات كتير وهي مستنّية دورها بتبرّم. كانت هي الوحيدة من الزباين اللي مكشّرة، وقلت دي أكيد من نوع الستّات اللي ماتحبش تستنّى وعايزة الكل يخدّم عليها هي الأول. بعد شوية فهمت سبب التبرّم ده إيه؛ كان عندها طفلين كل شويّة يجوا يقولوا لها بابا بيقول لك هاتخلّصي امتى، عاوزين نروّح، عاوزين نمشي، زهقنا. الست الحقيقة كانت صبورة جدًّا في ردودها عليهم، ولسان حالها بيقول "انتم مستخسرين فيّا ساعتين أعمل فيهم حاجة لنفسي في العيد؟" جوز الستّ دي غالبًا مش هياخد باله من شعرها الناعم الطويل المفرود، ولا لونه الأصفر؛ هو عاوز يروّح يرتاح ويتفرّج على التلفزيون، بس هي بتحاول تحسّن في عوامل السعادة السّهلة، والباقي بأمر الله بقى.
أكتر حاجة كنت مستغرباها بقى كانت الستات الكبار في السنّ، اللّي "وَخَطَ الشَّيْب" شعرهم كله، لكنّهم كانوا حريصين يجوا برضه ويهذّبوا الحواجب، ويتفرّجوا بالمرّة، يا على بناتهم المتجوزين يا على باقي البنات والستات. الستّات دول لا عايزين يبقوا حلوين عشان يتباهوا قدّام أقرانهم زيّ البنات الصغيرة، ولا عايزين يجتذبوا انتباه أجوازهم زي الستات التلاتينية. جايّين ليه؟ عشان جرَت العادة يجوا في الأعياد، وعشان الوشّ المتهذّب ده يظلّ راس مال الست وعلامة إنها مش مهملة (قوي)، وعشان الستّ هي الستّ؛ تحبّ تحسّ إنها جميلة في اللي تقدر عليه. مامتي - اللي هي قرّبت على السبعين - كان نفسها تيجي معايا، لكن لإن حركتها بقت على قدّها وملهاش خُلق على الانتظار بتفضّل تصبغ أو تحنّي شعرها في البيت. لمّا كنت في كندا، كنت باشوف الستّات اللي معدّيين السبعين والتمانين باستمرار حاطّين مكياج وعاملين شعرهم وضوافرهم، زيّهم زيّ البنات اللي لسّه في الجامعة، بل يمكن أكتر، لإن كتير من بنات الجامعة مايقدروش يدفعوا الأسعار الخرافية للكوافيرات هناك. زمان أيّام المثالية والجوهر والمضمون كنت باشوف التصرفات دي تفاهة وقلّة عقل و "vanity" ملهاش لازمة وتسليع للمرأة، إلخ من هذا الهذيان. دلوقت أنا في عرض إنّي ألاقي كوافير جنب منّي يعمل لي مانيكير وپاديكير كويسين ويقص لي شعري قصة حلوة. كل ستّ في الآخر بتدوّر على عوامل التجمّل اللي بالنسبة لها تدخل في إطار "المضمون". 
أما نجوم الليلة الحقيقيّين فكانوا البنات العاملات. الستّ وبنتها، بما إنهم أصحاب البيزنس، كانوا بيشتغلوا في صمت، وكانت البنت تحديدا تبان شايلة هموم كبيرة، اتّضحت في الآخر إنها مُرَكَّزة في كيان صغير هو بنتها الشقيّة، اللي كانت بتحوم في المكان وبتعيّط طلبًا للاهتمام من مامتها وجدتها. لكن الأم والجدّة كانوا بيشتغلوا بإيديهم ورجليهم عشان ينجزوا الزباين اللي عمّالة تزيد وابتدت تزهق. الأمّ العاملة كانت بتحاول تهدّي بنتها وتسايسها عشان تسكت، على أمل إنّ الأب جاي كمان شويّة وهياخد البنت الصغيرة. العاملتين الصغيّرين بقى كانوا أهدى بالاً وأقل همًّا، وبالتالي كان عندهم القدرة يضحكوا ويهزّروا، مع الزباين شويّة عشان يصبّروهم على الانتظار، ومع الطفلة الصغيرة شويّتين عشان يشتّتوا انتباهها عن مامتها، ومع بعضهم تلات شويّات عشان الشّغل يهون. كل شويّة كانت واحدة منهم تسيب الزبونة اللي تحت إيدها وتشيل البنت الصغيرة تفضل تحضنها وتلفّ بيها وتبوس فيها، بعدين تنزّلها وتكمّل شغل، وشويّة والعاملة التانية تكرّر نفس الحكاية لمّا تلاقي البنت ابتدت تزنّ تاني. كلّ ده وهمّ واقفين على رجليهم من بعد الفطار، من غير ميّة ومن غير راحة ولو ثانية، ويدوبك قدروا يشربوا قهوة عملتها لهم أمّ واحدة فيهم كانت قاعدة بتساعد الستّ الكبيرة صاحبة المكان. والساعة عدّت، ووراها ساعة، والعاملات دول واقفين بيخلّصوا ستّ ورا بنت ورا ستّ، وابتدت رجليهم تكلّ بيهم، وابتدوا لمّا يمشوا يتوجّعوا ويحنوا ضهرهم، لكن فضلوا يهزّروا ويضحكوا ويجرّوا كلام مع بعض ومع الأم الصغيرة المتجهمة عشان يهوّنوا عليها ومع البنت الصغيرة عشان يفرفشوها، لحد ما أخيرا أبو البنت جه عشان ياخدها، والبنت بقت تلفّ المحلّ تودّعهم واحدة واحدة وترفع لهم خدّها عشان يبوسوها وتقول لهم إنها هاتمشي صحيح بس جايّة بكرة. أول ما البنت مشيت، انفرجت أسارير الأمّ، وابتدت تهزّر وتضحك مع البنات ومع الزّباين اللي تحت إيديها، كإنّ بنتها كانت همّ وانزاح. آه، أحيانا كتير الأمهات بتكلّ بولادها وبتتمنّى حد ياخدهم من إيديها عشان تشمّ نفسها شوية وترتاح مؤقّتًا من القلق القاتل اللي بيخلّي عينيها تفضل في وسط راسها. لمّا جه دوري في الآخر وقعدت تحت إيدين هذه الأم الصغيرة، سمعنا في وسط الدّوشة زبونة بتتوعّد حد من ولادها إنه لو مابطّلش شقاوة "هاتعجنه"، وساعتها الأم الصغيرة همست لي "يعني مش أنا لوحدي اللي باعجن أهو". كانت نبرة الهمس فيها إحساس مكسور. هي مش حابّة "تعجن" بنتها ضناها، لكن غصب عنها. ياترى الأمّ الصغيرة دي هاتلاقي وقت لنفسها هيّ كمان عشان تتجمّل وتعيّد؟
هاتفضل الستات هم مصدر البهجة في هذا الكون المليان أسئلة وجودية وأزمات وأعباء وواجبات. مش بسّ الستّات الحلوين، لأ وكمان الستات العاديين خالص، اللي لا همّ نجمات جميلات زي سكارليت جوهانسن، اللي هيّ مبهجة برضه، ولا همّ مثال الرشاقة والفتنة. ستّات عادية، بهمومها، وأعباءها، وعيوبها، وولادها، لكن لسّه بتحاول تتجمّل على قدّ مقدرتها وفي أزحم اللحظات، ولسه قادرة تفرح وتنشر الانبساط، في المناسبات والأعياد، وفي كل مكان. 

No comments:

Template by:
Free Blog Templates